الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
أي آنف. وهذا فيه نظر، فإنه يقال لصاحب هذا القول: إن تلك المغاضبة وإن كانت من الأنفة، فالانفة لأبد أن يخالطها الغضب وذلك الغضب وإن دق على من كان؟! وأنت تقول لم يغضب على ربه ولا على قومه! قوله تعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ} قيل: معناه استزله إبليس ووقع في ظنه إمكان ألا يقدر الله عليه بمعاقبته. وهذا قول مردود مرغوب عنه، لأنه كفر. روى عن سعيد بن جبير حكاه عنه المهدوي، والثعلبي عن الحسن. وذكر الثعلبي وقال عطاء وسعيد بن جبير وكثير من العلماء معناه: فظن أن لن نضيق عليه. قال الحسن: هو من قوله تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد: 26] أي يضيق. وقوله: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7]. قلت: وهذا الأشبه بقول سعيد والحسن. وقدر وقدر وقتر وقتر بمعنى، أي ضيق وهو قول ابن عباس فيما ذكره الماوردي والمهدوي.وقيل: هو من القدر الذي هو القضاء والحكم، أي فظن أن لن نقضي عليه بالعقوبة، قاله قتادة ومجاهد والفراء. مأخوذ من القدر وهو الحكم دون القدرة والاستطاعة. وروي عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب، أنه قال في قول الله عز وجل: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} هو من التقدير ليس من القدرة، يقال منه: قدر الله لك الخير يقدره قدرا، بمعنى قدر الله لك الخير. وأنشد ثعلب: يعني ما تقدره وتقضى به يقع. وعلى هذين التأويلين العلماء. وقرأ عمر بن عبد العزيز والزهري: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} بضم النون وتشديد الدال من التقدير. وحكى هذه القراءة الماوردي عن ابن عباس. وقرأ عبيد بن عمير وقتادة والأعرج: {أن لن يقدر عليه} بضم الياء مشددا على الفعل المجهول. وقرأ يعقوب وعبد الله بن أبي إسحاق والحسن وابن عباس أيضا: {يقدر عليه} بياء مضمومة وفتح الدال مخففا على الفعل المجهول. وعن الحسن أيضا: {فظن أن لن يقدر عليه}. الباقون {نقدر} بفتح النون وكسر الدال وكله بمعنى التقدير. قلت: وهذان التأويلان تأولهما العلماء في قول الرجل الذي لم يعمل خيرا قط لأهله إذا مات فحرقوه: «فوالله لئن قدر الله على» الحديث فعلى التأويل الأول يكون تقديره: والله لئن ضيق الله علي وبالغ في محاسبتي وجزاني على ذنوبي ليكونن ذلك، ثم أمر أن يحرق بإفراط خوفه. وعلى التأويل الثاني: أي لئن كان سبق في قدر الله وقضائه أن يعذب كل ذي جرم على جرمه ليعذبني الله على إجرامي وذنوبي عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين غيري. وحديثه خرجه الأئمة في الموطأ وغيره. والرجل كان مؤمنا موحدا. وقد جاء في بعض طرقه: «لم يعمل خيرا إلا التوحيد» وقد قال حين قال الله تعالى: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب. والخشية لا تكون إلا لمؤمن مصدق، قال الله تعالى: {إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} [فاطر: 28]. وقد قيل: إن معنى {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} الاستفهام وتقديره: أفظن، فحذف ألف الاستفهام إيجازا، وهو قول سليمان أبو المعتمر. وحكى القاضي منذر بن سعيد: أن بعضهم قرأ: {أفظن} بالألف.قوله تعالى: {فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {فَنادى فِي الظُّلُماتِ} اختلف العلماء في جمع الظلمات ما المراد به، فقالت فرقة منهم ابن عباس وقتادة: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة الحوت.وذكر ابن أبي الدنيا حدثنا يوسف بن موسى حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال حدثنا عبد الله بن مسعود في بيت المال قال: لما ابتلع الحوت يونس عليه السلام أهوى به إلى قرار الأرض، فسمع يونس تسبيح الحصى فنادى في الظلمات ظلمات ثلاث: ظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل، وظلمة البحر {أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} {فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} [الصافات: 145] كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس عليه ريش. وقالت فرقة منهم سالم بن أبي الجعد: ظلمة البحر، وظلمة حوت التقم الحوت الأول. ويصح أن يعبر بالظلمات عن جوف الحوت الأول فقط، كما قال: {في غيابات الجب} [يوسف: 10] وفي كل جهاته ظلمة فجمعها سائغ. وذكر الماوردي: أنه يحتمل أن يعبر بالظلمات عن ظلمة الخطيئة، وظلمة الشدة، وظلمة الوحدة. وروى: أن الله تعالى أوحى إلى الحوت: {لا تؤذ منه شعرة فإني جعلت بطنك سجنه ولم أجعله طعامك} وروى: أن يونس عليه السلام سجد في جوف الحوت حين سمع تسبيح الحيتان في قعر البحر.وذكر ابن أبي الدنيا حدثنا العباس بن يزيد العبدي حدثنا إسحاق ابن إدريس حدثنا جعفر بن سليمان عن عوف عن سعيد بن أبي الحسن قال: لما التقم الحوت يونس عليه السلام ظن أنه قد مات فطول رجليه فإذا هو لم يمت فقام إلى عادته يصلي فقال في دعائه: {واتخذت لك مسجدا حيث لم يتخذه أحد}.وقال أبو المعالي: قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تفضلوني على يونس بن متى» المعنى فإني لم أكن وأنا في سدرة المنتهى بأقرب إلى الله منه، وهو في قعر البحر في بطن الحوت. وهذا يدل على أن الباري سبحانه وتعالى ليس في جهة. وقد تقدم هذا المعنى في البقرة والأعراف. {أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} يريد فيما خالف فيه من ترك مداومة قومه والصبر عليهم.وقيل: في الخروج من غير أن يؤذن له. ولم يكن ذلك من الله عقوبة، لان الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا، وإنما كان ذلك تمحيصا. وقد يؤدب من لا يستحق العقاب كالصبيان، ذكره الماوردي.وقيل: من الظالمين في دعائي على قومي بالعذاب. وقد دعا نوح على قومه فلم يؤاخذ.وقال الواسطي في معناه: نزه ربه عن الظلم وأضاف الظلم إلى نفسه اعترافا واستحقاقا. ومثل هذا قول آدم وحواء: {رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا} [الأعراف: 23] إذ كانا السبب في وضعهما أنفسهما في غير الموضع الذي أنزلا فيه.الثانية: روى أبو داود عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «دعاء ذي النون في بطن الحوت {لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} لم يدع به رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له» وقد قيل: إنه اسم الله الأعظم. ورواه سعد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.وفي الخبر: في هذه الآية شرط الله لمن دعاه أن يجيبه كما أجابه وينجيه كما أنجاه، وهو قوله: {وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} وليس هاهنا صريح دعاء وإنما هو مضمون قوله: {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} فاعترف بالظلم فكان تلويحا. قوله تعالى: {وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} أي نخلصهم من همهم بما سبق من عملهم. وذلك قوله: {فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143- 144] وهذا حفظ من الله عز وجل لعبده يونس رعى له حق تعبده، وحفظ ذمام ما سلف له من الطاعة.وقال الأستاذ أبو إسحاق: صحب ذو النون الحوت أياما قلائل فإلى يوم القيامة يقال له ذو النون، فما ظنك بعبد عبده سبعين سنة يبطل هذا عنده! لا يظن به ذلك. {مِنَ الْغَمِّ} أي من بطن الحوت. قوله تعالى: {وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} قراءة العامة بنونين من أنجي ينجي. وقرأ ابن عامر {نجي} بنون واحدة وجيم مشددة وتسكين الياء على الفعل الماضي وإضمار المصدر أي وكذلك نجي النجاء المؤمنين، كما تقول: ضرب زيدا بمعنى ضرب الضرب زيدا وأنشد: أراد لسب السب بذلك الجرو. وسكنت ياؤه على لغة من يقول بقي ورضى فلا يحرك الياء. وقرأ الحسن {وذروا ما بقي من الربا} [البقرة: 278] استثقالا لتحريك ياء قبلها كسرة. وأنشد: سكن الياء في دعي استثقالا لتحريكها وقبلها كسرة وفاعل حدا المشيب، أي وحدا المشيب البعير، ليت شعري المصير أين هو. هذا تأويل الفراء وأبي عبيد وثعلب في تصويب هذه القراءة. وخطأها أبو حاتم والزجاج وقالوا: هو لحن، لأنه نصب اسم ما لم يسم فاعله، وإنما يقال: نجي المؤمنون. كما يقال: كرم الصالحون. ولا يجوز ضرب زيدا بمعنى ضرب الضرب زيدا، لأنه لا فائدة فيه إذ كان ضرب يدل على الضرب. ولا يجوز أن يحتج بمثل ذلك البيت على كتاب الله تعالى. ولابي عبيد قول آخر- وقاله القتبي- وهو أنه أدغم النون في الجيم. النحاس: وهذا القول لا يجوز عند أحد من النحويين، لبعد مخرج النون من مخرج الجيم فلا تدغم فيها، ولا يجوز في {مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ} {مجاء بالحسنة} قال النحاس: ولم أسمع في هذا أحسن من شيء سمعته من علي بن سليمان. قال: الأصل ننجي فحذف إحدى النونين، لاجتماعهما كما تحذف إحدى التاءين، لاجتماعهما نحو قوله عز وجل: {وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] والأصل تتفرقوا. وقرأ محمد بن السميقع وأبو العالية: {وكذلك نجى المؤمنين} أي نجى الله المؤمنين، وهي حسنة.
|